على أطراف بلدة زفورنيك الصغيرة، اكتُشف جزء من رفات الشاب حارث موييتش خلال عملية نبش قبور جماعية، بعد 27 عامًا من اختفائه أثناء إبادة سربرنيتسا في صيف 1995. حارث، البالغ من العمر 19 عامًا، قُتل على يد جيش صرب البوسنة خلال عدوان دموي على البوسنة والهرسك بعد استقلالها.

قادة الصرب، مثل سلوبودان ميلوسيفيتش ورادوفان كارادزيتش وراتكو ملاديتش، سعوا إلى إقامة "صربيا الكبرى"، ما تطلب تطهيرًا عرقيًا لمساحات واسعة من البوسنة، وخاصة من المسلمين البوشناق، واستبدالهم بالصرب الأرثوذكس.

الشهادات تشير إلى أن حارث قضى أيامه الأخيرة في محاولة للفرار عبر الغابات نحو مناطق سيطرة الجيش البوسني. لم يصل. عُثر على عظامه لاحقًا في مكان بعيد عن آخر موقع شوهد فيه، وتعرفت عائلته عليه بتحليل الحمض النووي، رغم أن جثته لم تكن مكتملة. عاش 19 عامًا، وانتظرت أسرته أكثر منها لتودّعه.
 

"أتيت لأتعرف على ابني"
في إحدى مهمات التغطية الصحفية، زارت الكاتبة مركزًا للتعرف على الجثث قرب سراييفو. وصل رجل مسنّ يحمل عصا ويتصبب عرقًا. وقف أمام كيس بلاستيكي أبيض يحتوي على عظمة واحدة. خرّ على ركبتيه صارخًا: "ابني!"، بعد سنوات من الانتظار تحوّل حلم اللقاء إلى أنين. على قوائم المفقودين في ذلك اليوم كان اسم حارث موييتش ما زال موجودًا.

هذه السنة، دُفن حارث في مركز بوتوتشاري التذكاري قرب سربرنيتسا، إلى جانب أكثر من 8,372 ضحية موثقة من الإبادة، بينهم رجال وأطفال ونساء. رغم مرور العقود، لا تزال عمليات التعرف والدفن مستمرة.
 

إبادة وجراح مفتوحة
اتفاقية دايتون التي أوقفت الحرب عام 1995 اعتُبرت إنجازًا سياسيًا أمريكيًا، لكنها قسمت البلاد وكرّست واقعًا ظالمًا. اليوم، تدار سربرنيتسا من قبل صرب البوسنة، ولم يعد إليها كثير من البوشناق، وبعض العائدين اضطروا للتعايش مع قتلة عائلاتهم.

مرتكبو جرائم الحرب لا يزالون أحرارًا، والمقابر الجماعية لا تزال مدفونة في صمت. حصلت المجازر في سربرنيتسا تحت أنظار قوات الأمم المتحدة، التي فشلت في حماية "المنطقة الآمنة" المعلنة.

كوفي عنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وصف الإبادة بأنها "ستلاحق تاريخ المنظمة إلى الأبد". لكن السؤال اليوم: هل تملك الأمم المتحدة كرامة كافية لتتجنب تكرار الكارثة في غزة؟
 

غزة وسربرنيتسا.. تشابه موجع
كما فُرض الحصار على سربرنيتسا قبل الإبادة، تُفرض العزلة على غزة. كما استخدم التجويع كسلاح، يُستخدم الآن ضد الفلسطينيين. كما تجاهلت القوى الكبرى التحذيرات آنذاك، تتجاهلها اليوم. كما تباطأ العالم في الاعتراف بالإبادة البوسنية، يصم آذانه الآن عن غزة.

الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش وصف غزة بأنها "ميدان إبادة". دعا إلى السماح بالمساعدات، وطالب بتحقيق مستقل في المقابر الجماعية برفح. ورغم ذلك، تستمر الإبادة، ويستمر العجز الدولي.

خلال الأيام الأخيرة، كشفت تقارير عن خطة إسرائيلية لترحيل 600 ألف فلسطيني إلى ما يسمى "مدينة إنسانية" تحت السيطرة الإسرائيلية، على أن يمنعوا من مغادرتها. رئيس الوزراء الإسرائيلي ينسق مع واشنطن لإيجاد دول تقبل الفلسطينيين المرحّلين، بينما يشير الرئيس الأمريكي إلى أن "أمرًا جيدًا" سيحدث قريبًا.
 

شرعنة التهجير تحت غطاء السياسة
ما يجري ليس سلامًا، بل إعادة رسم ديموجرافي قسري يُدار من عواصم بعيدة. كما جُسّد اتفاق دايتون حدودًا لا تُعبر عن العدالة، بل تحاول فرض استقرار هش، يُراد اليوم فرض "حل" على غزة بعيدًا عن أنقاضها.

العالم يُطالَب مجددًا بأن يقبل التطهير العرقي كأمر واقع. يُعاد تعريف الإبادة على أنها "إستراتيجية سياسية"، وتُختزل المعاناة إلى مشاهد على الهاتف المحمول.

العدالة الدولية تبدو الآن في قفص الاتهام. المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات توقيف ضد قادة روس وسودانيين، لكنها تتردد عندما يكون المتهمون مدعومين من قوى كبرى.

إذا اقتصر القانون الدولي على الضعفاء، وتحصّن الأقوياء خلف نفوذهم، فإن النظام القانوني العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية يتحوّل إلى مسرح أخلاقي بلا أثر.

في سربرنيتسا، تأخرت العدالة، إن وصلت أصلاً. في غزة، تُدفن العدالة مسبقًا تحت الركام. وإذا لم نملك الشجاعة لتسمية ما يحدث باسمه – تطهير عرقي، عقاب جماعي، إبادة – فلن يغفر لنا التاريخ.

فالفلسطينيون، مثل البوشناق، لا يُقتلون فقط، بل يُمحَون. والعالم يراقب – لا عبر نشرات الأخبار هذه المرة، بل عبر هواتفه وهو يحتسي قهوته.
https://www.dailysabah.com/opinion/op-ed/when-genocide-becomes-strategy-from-srebrenica-to-gaza